دورُ القرآن الكريم في بقاء اللغة العربية وتطويرها


 دورُ القرآن الكريم في بقاء اللغة العربية وتطويرها
   
    إعداد
    محـمـد خـالـد الندوي
محتويات البحث:
1- بين يدي البحث.
2- نشأة اللغة العربية.
3- ما يُميّز اللغة العربية عن غيرها من اللغات.
4- القرآن الكريم.
5- مضمون القرآن (تعاليم الإسلام).
6- جمع القرآن.
7- القرآن: كتاب هداية وإعجاز.
8- أسلوب القرآن.
9- بلاغة القرآن.
10- تأثير القرآن.
11- القرآن ودوره في تطور اللغة العربية وآدابها.
12- توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة.
13- المحافظة على العربية من الضياع.
14- تهذيب ألفاظ اللغة العربية .
15- أثر القرآن الكريم في الشعر العربي.
بسم الله الرحمن الرحيم
دورُ القرآن الكريم في بقاء اللغة العربية وتطويرها
بين يدي البحث:
       القرآن الكريم كتاب ختم الله به الكتب، وأنزله على نبي ختم به الأنبياء بدين عام خالد ختم به الأديان، فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض، أنهى إليه منزله كل تشريع وأودعه كل نهضة وناط به كل سعادة. وهو حجة الرسول وآيته الكبرى، يقوم في فم الدنيا شاهداً برسالته، ناطقاً بنبوته، دليلاً على صدقه وأمانته، وهو ملاذ الدين الأعلى، يستند الإسلام إليه في عقائده وعباداته وحكمه وأحكامه وآدابه وأخلاقه وقصصه ومواعظه وعلومه ومعارفه، وهو عماد لغة العرب الأسمى، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها، وتستمد علومها منه على تنوّعها وكثرتها، وتفوق سائراللغات العالمية به في أساليبها ومادتها، وهو-أولاً وأخراً-القوة المحولة التي غيّرت صورة العالم، ونقلت حدود الممالك، وحوّلت مجرى التاريخ، وأنقذت الإنسانية العاثرة، لذلك كله كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سلف الأمة وخلفها جميعاً إلى يوم الناس هذا.
       القرآن من الله تعالى، والله حكيم وفعل الحكيم كله حكمة، فكل شيئ عنده بقدر ومقدار، ووصف الله القرآن بقوله عزّ وجلّ: «كتابٌ أحكمت آياتُه ثم فصّلت من لدن حكيم خبير»[1]، ولم ينل كتابٌ في الدنيا دراسات فيه وحوله مثلما نال القرآن الكريم، بيد أنه رغم استبحار ووفرة الدراسات القرآنية إلا أن القرآن الكريم لا يزال يستنهض الباحثين لمزيد من البحث في آفاقه الممتدة التي لا تتوقف عند نهايةٍ: «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحرُ قبل أن تنفد كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مدداً»[2]. وكل باحثٍ -حسبما يتيسر له من أدوات بحثه- يكشف بتوفيق الله جانباً من أسرارالكتاب ومع ذلك لا تنفد الأسرار: «كلاً نُمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاءُ ربك محظوراً»[3]. المتأمل للتاريخ يرى بوضوح لغات كثيرة قد اندثرت بموت أهلها أو ضعفت بضعفهم، فأين اللغة الفينيقية الآن -لغة أهل يابان قديماً- وأين اللغة المصرية والأشورية وغيرها، إن ارتباط اللغة العربية بالقرآن جعلها محفوظةً بحفظه، وباقيةً ببقائه، وسبحان الله القائل: «إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون»[4]. والذي يدقّق النّظر في العربية المعاصرة يجد الكثير من الألفاظ التي هجرت وظل بقاؤها حياً على الألسنة قاصراً على الاستخدام الديني لها وهو الاستخدام المرتبط بالقرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة، وأن التطور سنة  جارية في كل اللغات، وأكثر مظاهره يكون في الدلالات، إلا أن العربية ظلت محتفظةً بكل مستوياتها اللغوية(صوتية–صرفية–نحوية–دلالية)، وما تطور منها كان في إطار المعاني الأصلية وبسبب منها والمحافظة على الأصل الدلالي للفظ على تطور الزمن له فائدة لا يستهان بها، فتواصل الفهم بين الأجيال للنصوص القديمة وتراث الأمة أمر من الأهمية إذا ما تأملنا التعبير السريع الذي يلحق اللغة الإنكليزية (لغة الحضارة المعاصرة)، فنصوص الإنجليزية القديمة (التي مرّعليها قرابة ثلاثة قرون) أصبحت عصيةً على الفهم بالنسبة للإنجليزية المعاصرة، ولعل هذا التغير هو الذي دفع علماء هذه اللغة إلى إعادة صياغة النصوص الأدبية المهمة عندهم، مثل نصوص شكسبير بإنجليزية حديثة يفهمها المعاصرون بدلاً من الإنجليزية القديمة، في حين أن العربي المعاصر يقرأ آيات القرآن الكريم فلا يُحس معها بغرابة، ويكفي النظر إلى هذه الآيات: «الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدىً للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويُقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون»[5]، ومن الحديث النبويّ الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمالُ بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبُها أو امرأة ينكحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه»[رواه البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، برقم:1]، فرغم مرور أربعة عشر قرناً فإن الإنسان لايكاد يجد صعوبةً في فهم هذه النصوص، ولا تصادفه غرابة في الألفاظ، وما يصادفنا من ألفاظ صعبة فإن أبسط المعاجم يمكن أن يبدد هذه الصعوبة، وهكذا الشأن مع باقي المستويات اللغوية( الصوتية – والصرفية – والنحوية)، وهذه مزية عظيمة أن تكون الأمة موصولة بتراثها الزاخر تفيد منه وتنتفع به، اتسعت دائرة اللغة العربية بنزول القرآن ودخول الناس في دين الإسلام أفواجاً من شتّى بقاع الأرض، اتجه المسلمون من غير العرب إلى تعلّم العربية رغبةً في أداء العبادات والشعائرالدينية بها، وقراءة القرآن بالعربية، لأن قراءة القرآن تعبدٌ لله تعالى، وانتشرت اللغة العربية انتشاراً ما كان يتحقق لها بدون القرآن الكريم.
 نشأة اللغة العربية وتطورها:
        اللغة العربية من إحدى اللغات السامية، انشعبت هي وهن من أرومة واحدة نبتت في أرض واحدة، فلما خرج الساميون من مهدهم لتكاثر عددهم اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق و الاختلاط، وزاد هذا الاختلاف انقطاع الصلة وتـأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كل لهجة منها لغة مستقلة، والعلماء يردون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية، كما يردون اللغات الآرامية إلى اللاتينية  والسنسكريتية، فالآرامية أصل الكلدانية والأشورية والسريانية، والكنعانية مصدر العبرانية والفينيقية، والعربية تشمل المضرية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها قبائل اليمن والحبشة، والراجح في الرأي أن العربية أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم، لأنها بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطور والتغير تبعاً لأحوال العمران.
       وليس في مقدور الباحث اليوم أن يكشف عن أطوار النشأة الأولى للغة العربية، لأن التاريخ لم يسايرها إلا وهي في وفرة الشباب والنماء، والنصوص الحجرية التي أخرجت من بطون الجزيرة لاتزال لندرتها قليلة الغناء، فإن العرب كانوا أميين لاتربطهم تجارة ولا إمارة ولا دين، فكان من الطبيعي أن ينشأ من ذلك ومن اختلاف الوضع والارتحال، ومن كثرة الحل والترحال، وتأثير الخلطة والاعتزال اضطرابٌ في اللغة كالترادف واختلاف اللهجات في الإبدال والإعلال والبناء والإعراب، وهنات المنطق كجعجة قضاعة، وطمطمة حِمير، وفحفحة هذيل، وعنعنة تميم، وكشكشة أسد، وقطعة طيئ، وغير ذلك مما باعد بين الألسنة وأوشك أن يقسم اللغة إلى لغات لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
       ولغات العرب على تعددها واختلافها إنما ترجع إلى لغتين أصليتين: لغة الشمال ولغة الجنوب، وبين اللغتين بونٌ بعيدٌ في الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق والتصريف، حتى قال أبو عمرو بن العلاء: "ما لسان حِمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، على أن اللغتين وإن اختلفتا لم تكن إحداهما بمعزل عن الأخرى، فإن القحطانيين جلوا عن ديارهم بعد سيل العرم - وقد حدث عام 447م كما حقّقه غلازر الألماني - وتفرقوا في شمال الجزيرة، واستطاعوا بما لهم من قوة وبما كانوا عليه من  رقي أن يخضعوا العدنانيين لسلطانهم في العراق والشام، كما أخضعوهم من قبل لسلطانهم في  اليمن، فكان إذن بين الشعبين اتصال سياسي وتجاري يقرب بين اللغتين في الألفاظ، ويجانس بين اللهجتين في المنطق دون أن تتغلب إحداهما على الأخرى، وتطاول الأمد على هذه الحال حتى القرن السادس للميلاد، فأخذت دولة الحِميريين تزول وسلطانهم يزول بتغلب الأحباش على اليمن طوراً وتسلط الفرس عليه طوراً آخر، وكان العدنانيون  حينئذ على نقيض هؤلاء، تتهيأ لهم أسباب النهضة والألفة والوحدة والاستقلال بفضل الأسواق والحج، ومنافستهم للحِميريين والفرس، واختلاطهم بالروم والحبشة من طريق الحرب والتجارة، ففرضوا لغتهم وأدبهم على حِمير الذليلة المغلوبة، ثم جاء الإسلام فساعد العوامل المتقدمة على محو اللهجات الجنوبية وذهاب القومية اليمنية، فاندثرت لغة حِمير وآدابهم وأخبارهم حتى اليوم.
       لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسبُ، وإنما استطاعت كذلك أن تبرأ مما جنته عليها الأمية والهمجية والبداوة من اضطراب المنطق واختلاف الدلالة وتعدد الوضع، فتغلبت منها لغة قريش على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية[6].
ما يُميّز اللغة العربية عن غيرها من اللغات:
       مرّت اللغة العربية مثل سائر اللغات الحية بتقلبات ونشأت في طقوس وأجواء مختلفة متنوعة، من الصحراء ومناطق تكثر فيها الأمطار وفيها الخضرة والماء، ومناطق تقل فيها، وكان الناطقون بها يمتازون بصدق التعبير، ودقة المشاهدة ويتميزون عن غيرهم بعواطف وقّادة وشعور مرهف ودراسة للحياة، ما جعل اللغة العربية تزخر بتعبيرات ذات صلة وثيقة بواقع الحياة، وأحاسيس البشر، قلما تزخر بها لغة أخرى، فاحتوت اللغة العربية على ثروة غنية من التعبيرات الدقيقة وامتازت بألفاظ تؤدي فروع المعاني أو جزئياتها، فمِمّا تمتاز به أنها تضم أسماء وصفات كثيرة لشيئ واحد، باعتبار الأشكال والحالات والمقادير والأحجام، ففيها اسمٌ خاصٌ لكل ساعة من ساعات الليل والنهار، واسمٌ خاصٌ للطفل باعتبار الشهور والأيام ومراحل العمر واللون وأسماء الليالي والقمر والشعر والنظر والجلوس والقيام وحالة النوم واليقظة، وأسماء مختلفة للرمل وكثبانه والأرض باعتبار نوع التربة ولونها ولون الحصى، وكذلك الخيام وأصوات الحيوانات والمشي وسرعة السير، وهي تزخر بألفاظ تعبر عن المعاني الذهنية الحسية وأقدارها[7].
القرآن الكريم:
       القرآن أول كتاب دوّن في اللغة العربية، فدِراستُه ضرورية لتاريخ الأدب، لأنه مظهر الحياة العقلية والحياة الأدبية عند العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع للمسيح، وهو واضع النثر الفني ومنبع المعاني والأساليب والمعارف التي شاعت في أدب ذلك العصر، نزل بأسلوب بديع لاعهد للآذان ولاللأذهان بمثله، فلا هو موزون مقفى ولاهو سجع يتجزأ فيه المعنى في عدد من الفِقر، ولاهو مرسل يطّرد أسلوبه دون تقطيع ولاتسجيع؛ إنما هو آيات مفصلة متزاوجة يسكت عندها الصوت ويسكن الذهن لاستقلالها بالمعنى وانسجامها مع روح القارئ ووجدانه، فلما سمعه العرب وهم زعماء القريض وأمراء البيان أكبروه وأنكروه، وعجزوا عن أن يردوه إلى نوع من أنواع الكلام المعروفة؛ فقالوا مضطربين: إنه شعر شاعر أو فعل ساحر أو سجع كاهن، والقرآن إنما هو جمل متزاوجة، متناسقة متطابة، متخيرة الألفاظ حسنة التأليف، رائعة التشبيه، منطقية العرض، تنفذ من العقل والقلب إلى الصميم، كذلك أثر في النثر بوضعه المثل لمعالجة القصص والوصف والاشتراع والجدل المنتج والموعظة الحسنة، واستحداثه ألفاظاً وتراكيب وموضوعات لا يعرفها العرب، فظلت آيُهُ على طوال القرآن قوةً للخطيب وحلية للمنشئ، يرصع بها كلامه فتتميز بطلاوتها ونفاستها كما تتميز اللؤلؤة الفريدة في عقد من الجِزع[8].
مضمون القرآن(تعاليم الإسلام):
      في القرآن الكريم تعاليم عقائدية وأخلاقية نُلخصّها فيما يلي:
 1- العقائد: أهمّ أصل من أصول الإسلام الاعتقاد بالله، والاعتقاد بالله يكاد عاماً بين الشعوب، فلا تخلو أمة متبدية أو متحضرة من اعتقاد بإله، ولكن فكرة الألوهية وأوصاف الإله تختلف اختلافاً كبيراً بين الأمم، والإسلام يصف الله بأوصاف نلخصّها مما ورد في القرآن، فهو ليس إله قبيلة، ولا إله أمة العرب وحدهم، ولا إله الناس وحدهم، بل هو إله كل شيئ "رب العالمين"، وكل شيئ في الوجود مخلوق له، وخاضع لأمره، وهو إله واحد، فليس هناك إلهٌ للخير وإله للشر، وليس هناك إله للجمال وإله للرياح، وليس هناك من يشاركه في ألوهيته.
     قد اختار الله أفراداً من خلقه واتصل بهم بما يسمّى "الوحي"، وهؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد وغيرهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين، والغرض من هذا الوحي تعليم الرسول الناس ما يعلمه الله له لهدايتهم إلى الخير.
      وهناك وراء هذه الحياة حياة أخرى، ويومها يوم القيامة، واليوم الآخر، ويوم الحساب، ويوم الدين، وهذا اليوم هو يوم المثوبة على العمل الصالح والعقوبة على العمل السيئ، وقد جعل للمثوبة والعقوبة داران: دار المثوبة وهي الجنة، ودار العقوبة وهي النار.
       ووراء هذا العالم المادي عالم آخر روحي وفيه نوعات من الأرواح:
نوع خيّر يطيع الله ما أمره، ويجذّب نفوس الناس إلى الخير ويسمّى الملائكة، ونوع شرّير يستغوى النفوس إلى الشّر ويسمّى الشياطين.
             2- الأعمال: هناك أعمال يجب على المسلم أداؤها، وهي أساسية كالعقائد وهي: الصلاة، ويقصد بها أن تكون مظهراً من مظاهر الإخلاص لله، وتعبيراً دينياً يشرح عاطفة الإجلال له، والزكاة: وهي أن يؤخذ من مال الغني للفقير وللصالح العام، ثم صوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
               3- الأخلاق: في القرآن من الأخلاق نوعان: نوعٌ هو تعليم لآداب السلوك، ونوع آخر هو أسمى ما تدعو إليه الأخلاق: وفاءٌ بالوعد، وصبرٌ في الشدائد، وعدلٌ مع من أحببت أو كرهت، وعفوٌ عند المقدرة، وعفةٌ عند تزمّت.
        هدم الإسلام الوحدة القبلية، والوحدة الجنسية، وكره التفاضل بين أفرادها إلا بطاعة الله وتنفيذ أمره، حتم الطاعة لله، والطاعة للرسول، والطاعة لأولي الأمر في الأمة ما أطاع ولي الأمر أوامر الله[9].
جمع القرآن:
       كلمة جمع القرآن تطلق تارةً ويراد منها حفظه واستظهاره في الصدور، وتطلق تارةً أخرى ويراد منها كتابته كله حروفاً وكلماتٍ وآياتٍ وسوراً، هذا جمع في الصحائف والسطور، وذاك جمع في القلوب والصدور، ثم إن جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية: في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، والثالثة: في عهد عثمان رضي الله عنه، وفي هذه المرة الأخيرة نسخت المصاحف وأرسلت إلى الآفاق[10].
      ومن وفّقهم الله من الصحابة رضوان الله عليهم لجمع القرآن، فهم أخذوا لهذا العمل من الحيطة النادرة والدقة الكاملة ما لم يحصل مثله ولا قريب منه لأي كتاب ديني وغير ديني قط ولن تحصل أبداً، ولم يكن ذلك إلا بوعد الله سبحانه وتعالى عن حفظ القرآن إلى يوم القيامة: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
القرآن – كتاب هداية وإعجاز:
       إن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز، من أجل هذين المطمحين نزل، وفيهما تحدّث، وعيهما دلّ، فكل علم يتصل بالقرآن من ناحية قرآنيته، أو يتصل به من ناحية هدايته أو إعجازه، فذلك من علوم القرآن وهذا ظاهر في العلوم الدينية والعربية، إن القرآن الكريم في طريقة عرضه للهداية والإعجاز على الخلق قد حاكم الناس إلى عقولهم، وفتح عيونهم إلى الكون وما في الكون من سماء وأرض، وبرٍّوبحرٍ، وحيوان ونباتات، وخصائص وظواهر؛ ونواميس وسنن. وكان القرآن في طريقة عرضه هذا موفّقاً كل التّوفيق، بل كان معجزاً أبهر الإعجاز؛ لأن حديثه عن تلك الكونيات كان حديث العليم بأسرارها، الخبير بدقائقها، المحيط بعلومها ومعارفها، على حين أن هذا الذي جاء بالقرآن رجلٌ أمي، ونشأ في أمة أمية جاهلة، لاصلة لها بتلك العلوم وتدوينها، ولا إلمام لها بكتبها ومباحثها، بل إن بعض تلك العلوم لم ينشأ إلا بعد عهد النبوة ومهبط الوحي بقرون وأجيال، فأنّى يكون لرجل أمي كمحمّد ذلك السجّل الجامع لتلك المعارف كلها إن لم يكن تلقّاه من لدن حكيم عليم؟ قال سبحانه مقرّراً لهذا الإعجاز العلمي: «وما كنت تتلو من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون، بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون»[11]، ولعلّ من الحكمة أن نسوق هنا نموذجين من القرآن على سبيل التمثيل؛ أولهما: في سورة النور إذ يقول الله تعالى: «ألم تر أن الله يُزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله، وينزّل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار»[12]. قل لي – برك – ألا يملكك العجب حين تقرأ هذا النص الكريم الذي يتفق وأحدث النظريات العلمية في الظواهر الطبيعية: من سحاب، ومطر، وبرق؟!
       النموذج الثاني: يقول الله تعالى في سورة القيامة مبيّناً ومقرّراً كمال اقتداره على إعادة الإنسان وبعثه بعد موته: «أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوّي بنانه»[13]، أرجو أن تقف قليلاً عند تخصيصه "البنان" بالتسوية في هذا المقام، ثم نستمع إلى هذا العلم الوليد(علم تحقيق الشخصية)في عصرنا الأخير، وهو يقرّر أن أدقّ شيئ وأبدعه في بناء جسم الإنسان هو تسوية البنان، حتى إنه لا يمكن أن نجد بناناً لأحد يشبه بنان آخر بحال من الأحوال، قد انتهوا من هذا القرار إلى أن حكّموا البنان في كثير من القضايا والحوادث «فتبارك الله أحسن الخالقين»[14]،  ولا أريد أن أطيل في هذا؛ فمعجزات القرآن العلمية والكونية ليست يسيرة العدد، والله وحده هو المحيط بأسرار كتابه، ولا يزال الكون وما يحدث في الكون من علوم وفنون وشؤون لا يزال كل أولئك يشرح القرآن ويفسّره ويميط اللثام عن نواح كثيرة من أسراره وإعجازه، مصداقاً لقوله جلّ ذكرُه: «سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق»[15]، «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون»(يوسف : 21)[16].
أسلوب القرآن:
        نزل على أسلوب من الكلام لا يُضارعه أسلوب قبله ولا بعده من كلام البشر؛ فلا شعر ولا هو سجع ملتزم، ولا هو متزاوجة دائمة ولا هو نثر مرسل إرسال الحديث ولا هو خطابة؛ وإنما هو نظم بديع من كلام عذب اللفظ، محكم الوضع، باهر الروعة، حصيف المعنى، فصّل بين أجزائه تفصيلاً تشعر النفس عند انتهاء أي فاصلة منه بانتهاء القول، وتطمئن إلى الوقف عليها ولوتعلق بما بعدها.
وتتنوع طرقُه في الإقناع بتنوع طباع المخاطبين به: فمن قصص على أشكال مختلفة في إطناب أو إيجاز أو توسط وبفواصل طوال أو قصار أو متوسطة، ومن استدلال على حقائق الأمور بالآثار المشاهدة في خلق السماوات والأرض، أو ضرب الأمثال أو بقياس الغائب على الحاضر أو بالبرهانات النظرية، ومن تصريح وتكرير إلى كناية وإيجاز، كل أولئك مصوّر بصورة فوق طاقة البشر من الإحكام والبلاغة وصحة الحكم وانتفاء التناقض والاختلاف؛ فإن البشر إذا أجاد أحدهم في فن من الكلام قصّر في غيره «أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» (النساء : 82)[17].
بلاغة القرآن:
         أما بلاغة القرآن فروعة فنّ ومتحف بيان، يهزّك ما فيه من موسيقيّ، ترافق الكلام وتتصل بأغوار النفس البشرية فتحرك أوتارها، وإذا هنالك نغمات تلو النغمات، تارةً في فيض الإشعاع والنور، وطوراً في انقضاض صاعقيّ، تارةً في لين المفاجأة، وطوراً في قسوة التّهديد، وإذا هنالك جوّ من العظمة والجلال يفيض على الحياة ويوجّهها شطر الروح والعالم الذي لا يزول[18].
تأثير القرآن الكريم:
       شغل المسلمون بالقرآن وفرغوا له، فكان دعاءهم في المسجد، ونظامهم في البيت، ومنهجهم في العمل، ودستورهم في الحكومة، فسرى هديُه فيهم مسرى الروح ونزل وحيُه منهم منزلة الطبع، وأثر في ألسنتهم وأفئدتهم وأنظمتهم ما لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله، فأما تأثيره في اللغة وأدبها –وهو ما يعنينا الآن ذكرُه– فبأنه خالط من القوم قلوباً قاسيةً فألانها، وطباعاً جافيةً فأرقّها، وأحلاماً طافيةً فأقرها، فكسب ذلك اللغة عذوبة في اللفظ، ورقة في التركيب ودقة في الأداء، وقوة في المنطق وثروة في المعاني، ووسّع دائرة اللغة باستحداثه الألفاظ الدينية كالصلاة والزكاة والقيام والركوع والسجود والوضوء والمؤمن والكافر الخ، واقتضائه علوماً جديدة كالنحو والصرف والاشتقاق لدفع اللحن عنه، والمعاني والبيان والبديع لتقرير الإعجاز فيه، وعِلمي اللغة والأدب لتفسير غريبه وتوضيح مشكله، والحديث والأصول والفقه والتفسير لاستنباط أحكام الشرع منه، وهو الذي ضمن بقائها تلك القرون العديدة، ونشرها في مجاهل الأصقاع البعيدة، مصداقاً لقول الله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، وحفظ القرآن يستلزم حفظ لغته[19].
القرآن ودوره في تطور اللغة وآدابها:
        القرآن الكريم مفخرة العرب في لغتهم، إذ لم يُتَح لأمة من الأمم كتاب مثله لا ديني ولا دنيوي من حيث البلاغة والتأثير في النفوس والقلوب، سواء حين يتحدث عن عبادة الله الواحد الأحد وعظمته وجلاله، أو عن خلقه للسماوات والأرض أو عن البعث والنشور، أو حين يشرّع للناس حياتهم ويقيمها على نهج سديد يحقّق لهم السعادة في الدارين: الأولى والآخرة. 
          فقد روى الرواة أن الوليد بن المغيرة الذي كان من ألدّ خصوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم سمعه يتلو آي الذكر الحكيم، فتوجه إلى نفر من قريش يقول لهم: "والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق"، وواضح أنه أحس في دقة أن آي القرآن تباين كلام الإنس من فصحائهم كما تباين كلام الجن الذي كان ينطق به كُهّانهم، إنه ليس شعراً موزوناً، مما كان يدور على ألسنة شعرائهم، ولاسجعاً مقفّى مما كان يدور ألسنة كُهّانهم وغيرهم من خطبائهم، إنما هو نمط وحده فُصّلت آياته بفواصل تطمئن عندها النفس، وتجد فيها وفي كل ما يتصل بها من ألفاظ رَوحا وعذوبة، إنه نمط باهر، بل هو نمط معجز، ببيانه وبلاغته، يقول جلّ ذكره: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»[20]، «وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين»(البقرة : 23)[21].
توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:  
         إن من آثار القرآن أنه جمع العرب على لهجة قريش، فقبائل العرب كانت تلوك لهجات تختلف عن اللهجة القرشية، فعمل القرآن على تقريب ما بين هذه اللهجات من فروق واستكمال السيادة للهجة القرشية، إذ كان العرب يتلون القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وأخذت هذه اللهجة تعم بين القبائل الجنوبية، ولما فتحت الفتوح ومُصّرت الأمصار أخذت لهجة القرآن تسود في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، إذ كانت تلاوته فرضاً مكتوباً على كل مسلم في الصلوات، وحثّ الإسلام على حفظه وترتيله، يقول عزّ شأنه: «ورتل القرآن ترتيلا»[22]، «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً، قال كذلك أتتك آياتُنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنسى»[23]، وبذلك تحوّل المسلمون في جمهورهم إلى حَفَظَة القرآن، يتلوه صغيرهم وكبيرهم.
       ومن غير شك أتاح هذا الحفظ للهجة قريش لا أن تنتشر في العالم الإسلامي فحسبُ، بل أن تحفظ أيضاً وتظل على مرّ العصور جديدة غضّة لا تبلى مع الزمان، وأيضاً فإنها اكتسحت ما بقيت من لغات، إذ اتخذتها شعوب –لا حصر لها– لسانها، فأصبح هو اللسان الأدبي من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلسي، فكل من عاشوا في هذه الأنحاء تكلموا العربية القرشية، إذ حلت من ألسنتهم محل لغاتهم الأولى وأصبحوا عرباً يعبّرون عن مشاعرهم وعقولهم، وكل ذلك بفضل القرآن الكريم، فهو حفظ العربية من الضياع، ونشرها في أقطار الأرض وجعلها لغةً حيةً خالةً[24].
المحافظة على العربية من الضياع:  
       ومن آثار القرآن أيضاً أنه حوّل العربية إلى لغة ذات دين سماوي باهر، وبذلك أحل فيها معاني لم تكن تعرفها العرب من قبله، ولا كانت تعرف العبارة عنها، وعادة يقف مؤرخو الأدب عند ألفاظ ابتدأها ابتداء مثل: الفرقان والكفر، والإيمان والإشراك، والإسلام والنفاق والصوم والصلاة والزكاة والتيمّم والركوع والسجود، وغير ذلك من كلمات الدين الحنيف، ولكن من الحق أن المسألة لم تكن مسألة ألفاظ فحسبُ، إنما كانت أيضاً مسألة دين جديد، له مضمونه الذي لم يكن العرب يعرفونه، من الدعوة إلى عبادة الله واشتقاق الدليل عليها وعلى وحدانيته من خلق السماوات والأرض و من تاريخ الأمم وما يعي من عظات من تاريخ الأنبياء وما يحمل من عبر، ومن تقرير البعث والنشور وبسط صور الثواب والعقاب مستعيناً في ذلك بالوجدانات الغزيرة وبالعقول وتمييزها، وما ينبغي أن يتهيأ لها من صواب الرأي، وإنه ليترقى دائماً من معرفة الأذهان، وفي خلال ذلك يشرّع للناس ما ينبغي أن تكون عليه حياتهم من نظام في أسَرهم وفي مجتمعهم بحيث تسودهم الرحمة والعدالة كما تسودهم أخوة عامة، يبذل فيها الغني للفقير من مال الله ما يعنيه، أخوة لا أسود فيها ولا أبيض ولا عربي ولا عجمي، وكل هذه الدعوة الكريمة التي نزل فيها مأة وأربع عشرة سورة تُعد ابتداء، بعباراتها وبمعانيها، ونستطيع  أن نقول إن كل ما كسبته العربية بعد ذلك من عظات عند الحسن البصري وغيره من كبار الواعظين إنما هو من فيض القرآن ومعينه الغزير.
       وبمرّ الزمن أخذت تتكوّن حوله علوم كثيرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن كل ما كسبه العرب من معارف إنما كان بفضل ما غرس فيهم القرآن من حب العلم، أصوّر هنا ما انبثق حوله من علوم مختلفة كعلم التفسير وعلم أسباب النزول وعلم نحوه وإعرابه وعلم عامّه وخاصّه مما هيّأ لظهور علوم البلاغة، ومن العلوم المهمة التفرعة علم الفقه وأصوله، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن العلوم الإسلامية كلها إنما قامت لخدمته، فهو الذي هيّأ بقوة لنهضة العرب العلمية[26].
     تهذيب ألفاظ اللغة العربية: 
       ومن آثار القرآن الكريم أنه هذّب اللغة العربية من الحوشية ومن اللفظ الغريب، فأقامها في هذا الأسلوب المعجز من البيان والبلاغة، ويكفي النظر إلى معلقة مثل معلقة لبيد أو إلى شعر قبيلة هذيل وديوانها المطبوع لترى كيف إنه اختط أسلوبا جزلاً، له رونق وطلاوة، مع وضوح القصد والوصول إلى الغرض من أقرب مسالكه، وهو أسلوب ليس فيه زوائد ولا فضول، فاللفظ على قدر المعنى، وكأنما رُسم له رسماً، وهو لفظ لا يرتفع عن الأفهام ولا عن القلوب، بل يقرب منها حتى يلمس الشغاف، ومما لا شك فيه أن القرآن هو الذي ابتدع هذا الأسلوب المحكم، بل هذا الأسلوب السهل الممتنع الذي تلذ الآذان حين تسمع له والأفواه حين تنطق به والقلوب حين تصغي إليه، هذا الأسلوب الذي يميّز عربيّتنا، والذي استطاع أن يفتح القلوب حين فتح العرب الأمصار، فإذا أهلها مشدوهون، وإذا هم يهجرون لغاتهم المختلفة إلى لغته الصافية الشفّافة، واقرأْ في قوارعه حين يتحدث عن البعث الحساب والعذاب وفي ملاطفاته حين يتحدث عن الرحمة والمغفرة أو حين يتحدث إلى رسوله فأنك ستجد الأسلوب دائماً مطرداً في جودة الأفهام وروعته مع سهولة اللفظ ومتانته وسلامته من التكلف، وانظر إلى قوله تعالى يتوعد المشركين وما ينتظرهم يوم يُبعثون: «ونُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نُفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأشرقت الأرض بنور ربها ووُضع الكتاب وجيئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون، وُفّيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاؤوها فُتحت أبوابها وقال لهم خزنتُها ألم يأتكم رُسُلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس مثوى المتكبرين»[26]، وقارن بين ذلك وبين ملاطفته جلّ وعزّ لرسوله في سورة الضُّحى: «والضحى، والليل إذا سجى، ما ودّعك ربك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ألم يجدك يتيماً فأوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدّث»[27]، فلن تجد هنا ولا هناك كلمة متوعرة ولا لفظاً ضعيفاً، إنما تجد روعة الأسلوب دائماً وجزالته وعذوبته ونصاعته، مع دقة العبارات واستيفائها لمعانيها، ومع الألفاظ المستحسنة في الآذان وعلى الأفواه، الألفاظ التي تغذي العقول برحيقها الصافي وتشفي القلوب والنفوس.
         وهذا الأسلوب البالغ في الروعة الذي ليس له سابقة ولا لاحقة في العربية، هذا الذي أقام عمود الأدب العربي منذ ظهوره، فعلى هَدْيه أخذ الخطباء والكُتّاب والشعراء يصوغون آثارهم الأدبية مهتدين بديباجته الكريمة وحسن مخارج الحروف فيه، ودقة الكلمات في مواضعها من العبارات بحيث تحيط بمعناها، وبحيث تجلّى عن مغزاها، مع الرصانة والحلاوة، وكان العرب -ولا يزالون- يتحفظونه، فهو معجمهم اللغوي والأدبي الذي ساروا على هُداه، مهما اختلفت أقطارهم أو تباعدت أمصارهم وأعصارهم، يقول الجاحظ: "وكانوا يستحسنون أن يكون في الخُطب يوم الحفل وفي الكلام يوم الجُمع آي من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاءَ والوقارَ والرقة وسلس الموقع. وقال الهيثم بن عدي: قال عمران بن حطان: إن أول خطبة خطبتها عند زياد –أو عند ابن زياد– فأعجب بها الناس وشهدها عمي وأبي، ثم إني مررت ببعض المجالس فسمعت رجلاً يقول لبعضهم: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيئ من القرآن"[البيان والتبيين:1/118]، وما ذلك إلا لفتنتهم بأسلوبه وإحكام نَظْمه، فإنك تجد العبارة منه بل اللفظة حين تأتي في سياق كلام كاتب أو خطيب أو شاعر تضيئ، كأنها الشهاب الساطع، ولا يزال أدباء العرب يستقون من فيضه وينهلون من نبعه الغزير ما يقوّم ألسنتهم، ويكفل لهم إحسان القول بدون تكلف أو تعمل أو اجتلاب للألفاظ من بعيد[28].
أثرالقرآن الکریم في الشعر العربي:
        لا ریبَ أنّ الشعر العربي ازدهر بتأثیر القرآن خاصة في معرکة الإسلام مع المشرکین وعبدة الأصنام والمرتدین عن دین الله عزّ و جلّ، بل إنّ من یقرأ شعر الشعراء المخضرمین یجد أنّه یصدر عن قِیم الإسلام الروحیّة التي انبروا للدفاع عنها، وکان في مقدمتهم شاعر الرسول حسان بن ثابت وکعب بن مالك و عبدالله بن رواحة وغیرهم، وکانوا یستلهمون من القرآن ما یعینهم علی هجاء المشرکین، یقول عبدالله بن رواحة:
 شهدت بأنّ وعد الله حقّ 
       وأنّ النارمثوی الكافرینا[29] 
وأیضاً نری هذه الأبیات لأبي الدرداء حیث یتجلّی فیها إیمانه العمیق:

یرید المرء أن یؤتی مناه

و یأبی الله إلا ما أرادا

یقول المرء فائدتي و مالي

وتقوی الله أفضل ما استفادا[30]

ویذکر الاستاذ الكبیر الدکتورشوقي ضیف أشعاراً من أحد الشعراء حیث یوصي ابنائه بتقوی الله وبرّ الوالدین:
أوصیكم بتقی الإلـــه فـإنّــه 

یعطي الغائب من یشاء ویمنع

وببر والدكم و طـاعة أمــــره
    إنّ الأبرّ من البنین الأطــوع[31]

والصلة واضحة بین هذه الأبیات و آي الذکر من حیث التقوی: «واتقوا الله واسمعوا والله لا یهدي القوم الفاسقین»، و بر الوالدین: «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أُمّه وهنًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصِيرُ»[32]، ولم یقف الأمر عند هذا الحد بل أخذ شعرهم یصدر عن حِکم و مواعظ، یقول کعب بن زهیر:

لو کنت أعجب من شئ لأعجبني

سعي الفتی و هو مخبؤ له القــدر

یسعی الفتی لأمور لیـــس یدرکها

و النفس واحدة و الـــهمّ منــتشر

و المرء ما عاش محدود له أمل

   لا تنتهي العین حتّی ینتهي الأثر[33]

وإذا القرآن أثّر في معاني الشعر فقد أثّر أیضاً في موضوعاته، فالغزل اتصف بالبراءة والطُّهر والصفاء والنقاء مما هیّأ لظهور الغزل العذري، والذي أضفی علی المرأة وعلاقتها بالرجل لوناً من القدسیّة و الأحترام، فجمیل حین یشکو آلامه وعذابه في حبه یضرع إلی ربّه شاکیاً:

إلی الله اشکو لا إلی الناس حبها

ولا بد بمن شکوی حبیب یروع

ألا تتقین الله فــیمــن قــتــلـتــه

فـــأمسی إلیکم خاشعاً یتضرع

فیا ربّ حببني إلیها و أعطني

 العودة منها أنت تعطي و تمنع[34]

بل إنّ الغزلیین جمیعاً عذریین وغیر عذریین یستلهمون في غزلهم بعض الألفاظ الإسلامیّة کالعفو والغفران، یقول ابن أبي ربیعة:
فدیتك أطلقي حبلی و جودی

فإنّ الله ذو عفو غفور[35]
وإذا نظرنا إلی المدیح نجد أنّه یتجه إلی تصویرالفضیلة الدّینیّة في الممدوح و قد سار الشعراء علی النهج هذا في مدحهم الخلفاء و تصویر تقواهم و إقامتهم للعدل بین الرعیّة، ولذا أکثروا في مدحهم عمر بن عبدالعزیز، فقد کان مثالا للحاکم الاموي التقي کما یذکر الدکتورشوقي ضیف یقول کثیر:
وصدقت بالفعل المقال مع الذي

أتیت فأمسی راضیاً کل مسلم

وقد لبست لبس الهلوك ثیابها

تراءی لك الدنیا بکفّ ومعصم

فأعرضت عنها مشمئزاً کأنّما

سقتك مدوفا من سمام وعلقم

ترکت الذي یفنی و إن کان مونقا

   وآثرت ما یبقی برأي مصم[36]

أما عن شعرالحماسة فقد کان أکثر تأثراً بالقرآن والاسلام لإرتباطه بالجهاد من أجل الدعوة الإسلامیة، وقد انتظم عدد من القصاص والوعّاظ في صفوف المحاربین یحثونهم علی الاستشهاد في سبیل الله، کما حوّل بعضهم هذا اللون إلی مواعظ خاصة کقول نصربن یسار:

دع عنك دنیا وأهلا أنت تارکهم

ما خیر دنیا و أهل لا یدومونا

وآثر تقی الله في الإسراء مجتهداً

إن التقي خیره ما کان مکنونا

وامنح جهادك من لم یرج آخرة

وکن عدواً لقوم لا یصلونا

فاقتلهم غضباً لله منتصراً

منهم به و دع المرتاب مفتونا[37]

وقد طبع الرثاء بهذه الرّوح الدّینیّة أیضاً، فعندما توفي الرسول صلی الله علیه وآله وسلّم قیل انّ ابنته فاطمة تندبه وتقول:

فلیبكه شرق البلاد وغربها

ولیبكه مضر و کل یمان
ولیبکه الطود المعظم جــوه
والبیت ذا الأستار والأرکان

یاخاتم الرسل المبارك صفوه

 صلی علیك منزل القرآن[38]
وظلت هذه الروح الدّینیّة سائدة في مراثیهم مع التسلیم بقضاء الله و الرّضاء به، یقول جریر في عمر بن عبدالعزیز:
حملت أمراً عظیماً فاصطبرت له

 وقمت فیه بأمرالله یا عمر[39]

وعلی هذا النحو أثّر القرآن والإسلام في نفسیّة الشعراء، وانعکس هذا التأثیرعلی الموضوعات المختلفة التي نظما فیها حتی وصف الصحراء، فإذا قرأنا هذا الوصف عند ذي الرمة أحسسنا أن قلبه یمتلئ رحمة بالحیوانات ومن أروع ما یصور ذلك قوله في ظبیة وولدها:

إذ استودعته صفصفاً أو صریمة

تنحت ونصت جیدها بالمناظر

حذارا علی وسنان یصرعه الكری

بکل مقتل عن ضعاف فواتر

وتهجره إلا اختلاسا نهارها

و کم من محب رهبة العین هاجر

حذار المنایا رهبة أن یفــتـنـها به

 وهي ألا ذاك أضعف ناصر[40]

والحق أنّ القرآن قد أثر في نفوس الشعراء تأثیراً قویاً، ولا یزال هذا الأثر یتعمق في نفوس العدید منهم حتی یومنا هذا.
وآخردعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المراجع والمصادر
1- القرآن الكريم.
2- دكتور شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي(العصر الإسلامي )، م:  دارالمعارف – مصر – بلا تاريخ.
3- جماعة من المؤلفين، فيهم: أحمد الإسكندري، وأحمدأمين، وعلي الجارم، وعبد العزيز البشري، وأحمد ضيف،
المفضل في تاريخ الأدب العربي، م: دار إحياء العلوم – بيروت(1994م).
4- حناء الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي (الأدب القديم)، م: دار الجيل - بيروت - بلا تاريخ.
5- أحمد حسن الزيّات، تاريخ الأدب العربي، م: مكتبة اتحاد – ديوبند – بلا تاريخ.
6- الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م: دار صادر – بيروت – لبنان(2008م).
7- محمد واضح رشيد الندوي، تاريخ الأدب العربي(العصر الجاهلي)، م: المطبعة الندوية، ندوة العلماء، لكناؤ، الهند (1989م).
8- عبد الحميد علي عبد الرحمان، الأدب العربي(العصر الإسلامي والأموي)، م: دارالكتاب الحديث – القاهرة (2005م).
9- دكتور شوقي ضيف، فنون الأدب( الرثاء )، م: دارالمعارف – مصر، بلا تاريخ.
    

الهوامش 
[1]  : سورة هود / 1
[2]  : سورة الكهف  /  109
[3]  :  سورة الإسراء  / 20
[4]  :  سورة الحجر  / 9
[5]  :  سورة البقرة  /  1- 5
[6]  :  تاريخ الأدب العربي للزيات، ص: 15- 16
[7]  :  تاريخ الأدب العربي(العصر الجاهلي) لواضح رشيد الندوي، ص: 45
[8]  :  تاريخ الأدب العربي للزيات، ص: 67 -68
[9]  :  الجامع في الأدب العربي(الأدب القديم) لحناء الفاخوري، ص: 327-329
[10]  :  مناهل العرفان للزرقاني، ص: 146
[11]   :  سورة العنكبوت / 48 – 49
[12]  :  سورة النور / 43
[13]  :  سورة القيامة / 13
[14]  :  سورة المؤمنون / 14
[15]  :  سورة فصلت  / 53
[16]  :   مناهل العرفان للزرقاني، ص: 22- 24
[17]  :   المفضل في تاريخ الأدب، ص: 106 – 107
[18]  :  الجامع في الأدب العربي (الأدب القديم) حناء الفاخوري، ص: 332 -  333
[19]  :  تاريخ الأدب العربي للزيات، ص: 70
[20]  :  سورة الإسراء/ 88
[21]  :  تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 30
[22]  :  سورة المزمل / 4
[23]  :  سورة طه / 124 – 126
[24]  :  (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 31
[25]  :  المصدر السابق، ص: 32
[26]  :  سورة الزمر / 68 -72
[27]  :  سورة الضحى
[28]  :  (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 33 -34
[29]  :  المصدر السابق، ص: 68
[30]  :  المصدر السابق، ص: 68
[31]  :  المصدر السابق، ص: 69
[32]  :  سورة لقمان / 14
[33]  : (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 87
[34]  :  الأدب العربي (العصر الإسلامي والأموي) عبد الرحمان علي عبد الحميد، ص: 26
[35]  :  (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 177
[36]  :  المصدر السابق، ص: 179
[37]  :  (العصر الإسلامي والأموي) عبد الرحمان علي عبد الحميد، ص: 27
[38]  :  الرثاء لشوقي ضيف، ص: 35
[39]  :  (العصر الإسلامي) لشوقي ضيف، ص: 393
[40]  : (العصر الإسلامي والأموي) عبد الرحمان علي عبد الحميد، ص: 28


Comments

Popular posts from this blog

الوداعی تقریب، الوداعیہ،

سلطنت عثمانیہ کے مذہبی احوال؛ ایک تاریخی جائزہ